“أمريكا تتحمل المسؤولية”..

“أمريكا تتحمل المسؤولية”.. لماذا قالها أهالي ترمسعيا بعد اقتحام المستوطنين للقرية؟

  • “أمريكا تتحمل المسؤولية”.. لماذا قالها أهالي ترمسعيا بعد اقتحام المستوطنين للقرية؟

فلسطيني قبل 10 شهر

“أمريكا تتحمل المسؤولية”.. لماذا قالها أهالي ترمسعيا بعد اقتحام المستوطنين للقرية؟

 ناحوم برنياع

مر أكثر من سنتين على أحداث “حارس الأسوار”. افترض الجيش بأن موجة الإرهاب التي تعاظمت في أيار 2021 ستجبي الثمن المرتقب من الطرفين وتهدأ، فهذه هي طبيعة الأمواج؛ ترتفع وتنخفض. أعطوا التصدي لجيوب الإرهاب اسماً متفائلاً: “كاسر الأمواج”. الموجة ستصطدم بالحائط الذي بناه الجيش، فتتكسر.

حصل شيء ما، لم يحصل في الماضي حتى في 56 سنة من حكم إسرائيلي في “المناطق” [الضفة الغربية]: المرض أصبح عضالاً، عديم العلاج. الإرهاب هو الوضع، هو السائد، لدى الفلسطينيين وكذا لدى اليهود. مئات الحملات الناجحة والإحباطات والاعتقالات والتصفيات، سجلت على مدى الفترة. نجاحات تكتيكية، وسقوط استراتيجي. اجتزنا فترات إرهاب أكثر قسوة في أثناء إرهاب الانتحاريين في التسعينيات وفي الانتفاضة الثانية. الفرق هو في الإيمان بالحل.

الإسرائيليون شعب يركز على حل. عندما لا يكون حل يخترعونه. سنتان والجيش يبحث في عن جواب للإرهاب الحالي، يجرون مداولات، يتشاورون مع خبراء، ينتظرون تعليمات حكومة واحدة وحكومة أخرى. وحتى اليوم، لا بشرى في الأفق.

لست من يقول إن المرض عضال. مسؤولون كبار في الجهاز يقولون إن المرض عضال، وهذا تشخيصهم.

في المداولات داخلية للجيش يذكرون أربعة تطورات تشرح الإرهاب وتواصله. الأول، كمية هائلة من الأسلحة التي هربت في السنوات الأخيرة من الأردن؛ الثاني، جيل شاب يتصدر الأمر ولا أمل له في المستقبل؛ الثالث، انعدام الحوكمة. هذه هي الأيام الأخيرة لحكم أبو مازن. مسؤولو السلطة الفلسطينية ينتظرون الصراع على الخلافة. يتركون السيطرة في مخيمات اللاجئين وفي القصبات لمصيرها؛ الرابع، المال الذي مصدره حماس والجهاد الإسلامي وإيران. شاب فلسطيني يطلق النار من بعيد على مركبة للجيش الإسرائيلي أو لمستوطن. ينشر الصورة في “تك توك” ويتلقى بالمقابل ألف شيكل نقداً. الخطر صغير، والمال كبير. يمكنه المخاطرة أكثر وإطلاق النار على اليهود من كثب، ثم ترتفع التعرفة بموجب ذلك.

رسمياً، التنسيق الأمني أوقف بأمر من أبو مازن. وفي الميدان تنسيق ما، لا مفر منه، لكن الأيام التي أدارت فيها إسرائيل والسلطة صراعاً مشتركاً ضد حماس والجهاد، مرت ولم تعد.

ظاهراً، هناك حل: إسرائيل تعزز السلطة الفلسطينية وأجهزتها، ثم يعيدون الحوكمة إلى جيوب الإرهاب في جنين ونابلس وقرى “السامرة”، فتهدأ البلاد.

لشدة الأسف، هذا حل وهمي، جملة مريحة للمتداولين في استدويوهات التلفزيون. لإحياء السلطة، مطلوب زعامة أخرى في رام الله وأخرى في إسرائيل. ليست الرؤوس وحدها التي يجب تغييرها، بل السياسة والمزاج في الشارع. إلى أن يحصل هذا، إذا ما حصل، سيقتل غير قليل من الناس الأبرياء من الجانبين.

ثمة حل، يعلن وزير الأمن القومي ايتمار بن غفير “سور واق 2”. يحتل الجيش الإسرائيلي المناطق الفلسطينية، يطهرها من المخربين والسلاح ويفرض فيها النظام والحوكمة.

تشويش عقل، يقول الجيش الإسرائيلي. حتى حملة “السور الواقي” كان محظوراً على الجيش الدخول إلى المناطق “أ”. كان هذا هو التغيير الأكبر. اليوم يمكن للجيش الدخول إلى كل مكان في الضفة، بما فيها قصبة نابلس، وبلاطة، ومخيم اللاجئين جنين. من الأفضل مرابطة القوات خارج نابلس والدخول إليها بشكل مبادر إليه.

لنفترض أن كل ألوية المشاة، الإلزامي والاحتياط، تدخل وتحتل: ماذا سيحصل عندها؟ هل ستنجح في جمع السلاح؟ وعندها السطر الساحق: هل نجح بن غفير الآن في جمع السلاح في الطيبة؟ في جلجوليا؟ في الناصرة؟ ماذا حصل تحت مسؤوليته؟ ما يريده بن غفير وسموتريتش هو الضم، عملياً، ربما فعلياً، للضفة كلها. الإرهاب هو الوسيلة لتحقيق الرؤيا، وليس مشكلة أمنية تتطلب حلاً. سيطرة عسكرية أولاً؛ بعد ذلك الضم؛ وفي النهاية الطرد.

أريحا قد تجسد للقارئ حجم الإرهاب، اعتبرت جزيرة هدوء على مدى السنين: منفصلة عن قلب الضفة، محوطة بحركة يهودية، عطشى للسياح. في السنة الماضية فتح الجيش أريحا للسياح: سمح للباصات بالدخول، بدون حراسة. بعد يوم من أحداث حوارة وصل مخربون حتى مدخل مطعم في أريحا ورشّوا رواده بالنار. بأعجوبة، لم يقتل أحد. طلب الجيش الإسرائيلي من السلطة فعل شيء ما. لم تفعل السلطة شيئاً. قتل سائح أمريكي قرب المدينة على الطريق إلى إيلات. وبشكل لا مفر منه، فتح الجيش سلسلة حملات في أريحا.

يدرك الجيش الإسرائيلي أن الإنجازات في إحباط العمليات لا تهم العائلات التي فقدت أعزاءها، كما أنها لا تهم الرأي العام. فما يحز في الذاكرة هو خط الدم الذي تخلفه العمليات الناجحة وراءها.

خيبة الأمل تجسدها جملة قالها لي مصدر أمني أول أمس: “عندما ننجح في تصفية مخربين، تولد عملية أخرى، على سبيل الثأر؛ عندما ينجحون في قتل إسرائيليين، تولد عملية أخرى، على سبيل الإلهام. كل حدث يزيد الاحتمال لحدث إرهابي جديد”. دائرة سحرية، دائرة شريرة. ما يعيدنا إلى السؤال، كيف أصبح الإرهاب الفلسطيني مصدر إلهام للإرهاب اليهودي.

معركة في الشارع

“ليس مجدياً أن تدخل ترمسعيا الآن”، قال رجال حرس الحدود على الطريق إلى مستوطنة “شيلو”. “هم غاضبون جداً”. ترمسعيا هي القرية الأغنى في “المناطق” [الضفة الغربية]. المحليون يسمونها بفخار “الضاحية الشرقية لواشنطن دي سي”. هاجر قسم كبير منهم إلى الولايات المتحدة بنوا الفيلّات كبيرة ذوات الأسطح الكرميدية بالمال الذي جمعوه. إذا ما هطل ثلج على القرية فسينزلق إلى الأسفل بسلاسة. بعض السكان عادوا بشيخوختهم؛ وهناك من بقوا للعيش في أمريكا. البيت الذي في القرية دليل على النجاح في الغربة، استعراض للملكية، رسالة للأبناء، من هنا جئنا وإلى هنا ننتمي.

المزارعون في ترمسعيا فلحوا أراضي السهل شرقي القرية. في أثناء الانتفاضة الثانية منعوا من الدخول إلى المنطقة لاعتبارات أمنية. انطفأت الانتفاضة في 2004، لكن في هذه الأثناء أقامت إسرائيل في المنطقة بؤراً استيطانية غير مسموح بها، وضمت الأراضي لنفسها. الأرض هوّدت. سهل “شيلو”، كما نسمي هذا السهل الخصيب. يعرض للسياح مشاهد توراتية وخمر ومواقع جذب.

أربعة يهود قتلوا في عملية الثلاثاء، في محطة الوقود “سونول”، في سفوح مستوطنة “عيلي”. جنازة اثنين منهم، عوفر فايرمن واليشع انتمان، أجريتا أول أمس في المقبرة المحلية، على مسافة قصيرة من المكان الذي قتلا فيه. قدر الجيش بأن فتيان التلال سيخرجون للثأر بعد انتهاء الجنازات. ترمسعيا هي البلدة الأقرب والأكثر راحة. قائد لواء “بنيامين”، العقيد الياف الباز، نشر جنوداً وشرطة على طول طريق 60 الذي يصل القرية من الغرب ومن الشمال، إلى جانب طريق الوصول إلى “شيلو”.

الفتيان تجاوزوا الجنود من الشرق، وجعلوا من الجيش أضحوكة بصفر جهود. نحو 200 شاب ملثم نزلوا إلى القرية، مزودين بمواد مشتعلة. حسب سجلات الجيش، أحرقوا ثمانية بيوت، و30 سيارة وحقول مفلوحة. حسب سكان القرية، تضرر 30 بيتاً. قائد المنطقة الوسطى “يهودا” فوكس، لاحظ النار صدفة حين كان يسافر على طريق 60. الجنود الذين كانوا منتشرين على طول الطريق لم يسبقوه كثيراً، عندما دخل الجيش فر المشاغبون. أحد المشاغبين ضرب بأداة ما قائد كتيبة، رجل احتياط، وأصابه بأذى. الضارب هرب. لم يعتقل أي من المشاغبين.

لكن عندها تصدت القوات لخصم جديد: السكان. دارت معركة حجارة في الجادة الفاخرة التي تؤدي إلى القرية. وقد أطلقت أيضاً مفرقعات. انزلقت المعركة إلى الحي الذي اعتدي عليه. شعر أفراد الشرطة بأن حياتهم في خطر فأطلقوا الرصاص الحي. قتل فلسطيني واحد؛ وأصيب عشرات؛ وتعرضت منازل للرصاصات. طلب قائد المنطقة اللقاء مع رئيس القرية الذي رفض.

لما كان قسم كبير من سكان ترمسعيا مواطنين أمريكيين، فأعمال الشغب هناك تصبح بالضرورة مشكلة دبلوماسية. هذا لا يعني أن هذا يشغل بال محبي إشعال النار من “السامرة”.

انصرف من هنا، ارحل، ارحل

عندما خرج الجيش، دخلنا الحي الذي تعرض للاعتداء. سيارتا إطفاء كانتا ترشا الماء على السيارات والمنازل. طواقم تلفزيونية من شبكات عربية وأجنبية وصلت من رام الله. كان الناس يخرجون أمتعتهم من المنازل المحترقة. بضع عشرات من المحليين بدأوا بمسيرة، في نداء للثأر. رباح محمد، 70 سنة، بجلابية بنية ولحية بيضاء تشع احتراماً وبهاءً، تحدث معي بإنجليزية متقنة. كان غادر إلى شيكاغو، عمل هناك في وزارة الهجرة، وعندما بلغ سن التقاعد عاد.

“يقع على أمريكا ذنب كبير”، قال لي.

سألت: لماذا؟

“لأنها تدعمكم بنسبة 100 في المئة”، قال. “تقول وزارة الخارجية إن المستوطنات غير قانونية لكنها لا توقفها. من ليس قانونياً يمكنه أن يفعل ما يريد. لا يلزمه أي قانون”.

بلال محمد، 38، يسكن في جورجيا، جنوب الولايات المتحدة، جاء في إجازة صيف عائلية مع ابنه في الثامنة، ابن الأخ وابن العم. ابنه وأمه كانا في البيت الذي أحرقه المستوطنون. “كنت في مركز القرية”، وتابع: “رأيت بيتي يشتعل. لم أفكر بالبيت الذي ذهب، إنما بأمي وابني. دخلت السيارة وانطلقت إلى البيت. رشقني أحد المستوطنين بالحجارة، اصطدمت بجدار، بدأ يضحك عليّ”.

داود موسى، الجار، أراني ندبة بقيت على وجهه جراء حجر رشقه عليه أحد المستوطنين. “حين أريت الجرح للجندي، سألني، أواثق أنت أن الحجر رشقه يهودي؟

كان البيت كله محروقاً حتى الأساس. فكرة بالبيت الذي أحرق في 2015 في دوما على مسافة غير بعيدة من هنا، وعن أبناء عائلة دوابشة الذي قضوا نحبهم فيه. فكرت بمحمد أبو خضير، الفتى الذي أحرق حتى الموت. كل ما في النار يسحر “فتيان التلال”.

توجه إلينا أحد الجيران. “أنتم، الصحافيين الإسرائيليين، أنتم المشكلة”، قال. “أنتم لا تروون حقيقة ما يحصل هنا”.

تغير وجهه دفعة واحدة جراء الغضب، أزرقت أوردته. “كل إسرائيلي عدو لنا”، صرخ. “لا حق لك في أن تكون هنا. انصرف من هنا، ارحل، ارحل”.

بعد ذلك، انسحب إلى بيته هزيل الكتفين يائساً.      

الفتيان

أصبحت هذه عادة، تقليد، شبه فريضة: بعد كل عملية إرهاب موجهة ضد نواة المستوطنين الصلبة، يخرج يهود إلى إحدى القرى في المحيط. يأتون معاً، بعدد 200 شاب. ظاهراً، مظاهرة. يطلقون الهتافات ضد الفلسطينيين وضد إهمال الحكومة. وعندها يبدأ 20 منهم أو أكثر، برشق الحجارة على المحليين وعلى الجنود، ويبدأ الحدث.

ثمة دم ودم. عندما قتل فلسطيني ثلاثة يهود في المنطقة الصناعية “أرئيل”، لم يخرج أحد للثأر، لكن اثنين من المقتولين في العملية في “عيلي” كانا من “فتيان التلال”. انطلق الفتيان إلى الدرب، مساء الثلاثاء، إلى قرية اللبن وقرى أخرى، والأربعاء إلى ترمسعيا.

عوريف، القرية التي خرج منها المقاتلان، تقع غربي مستوطنة “يتسهار”. مررت هناك أول أمس، عرفت أن هذه القرية لم يلمسها الفتيان. لعلهم خافوا من الجيش الذي اجتاح القرية؛ لعلهم خافوا من السكان، مؤيدي حماس. فلشجاعتهم حدود.

تشخيصهم سهل؛ فهم يلبسون بإهمال، سوالفهم طويلة، يعتمرون “كيبا” منسوجة كبيرة، ويكشفون صدورهم على الملأ. “الشاباك” يعرفهم جميعاً، وكذا الجيش والشرطة. لكن عندما يخرجون إلى العمل، لا تكون المنظومة قادرة على وقفهم، فهي عديمة الوسيلة. مصدر أمني يشبّه معالجتهم بتصدي الشرطة للسائقين السكارى في ليالي السبت.

ثمة محافل في أذرع الأمن تتمنى الشجب من الأهالي والحاخامات ومن سياسيين مثل سموتريتش وبن غفير. هم يتساءلون: لماذا لا يشجبون؟ حتى لو شجبوا – ولماذا يشجبون ما كانوا يفعلونه في صباهم – فإن أياً من الفتيان ما كان ليستمع لهم. حكمهم الذاتي مبني على خلل في السمع.

يديعوت أحرونوت 23/6/2023

التعليقات على خبر: “أمريكا تتحمل المسؤولية”.. لماذا قالها أهالي ترمسعيا بعد اقتحام المستوطنين للقرية؟

حمل التطبيق الأن